الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفي وبعد :
فإن الدعاة الموحدين يستنكرون الدعوات المتكررة للخروج والتكفير إلى ميادين العمل وساحات الإرادة دائماً ويقولون : إن الإصلاح ليس بالخروج على الحكام أو أولى الأمر فقط ، بل يكون بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، كما قال الله تعالى : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . (النحل:125)
فواجبنا تجاه ديننا حماية الشريعة الإسلامية في التعبير السلمي عن الرأي السديد موضحاً أن أحكامها ومقاصدها جاءت لتحقيق مصالح العباد والبلاد ،دون التطرق إلى فتنة تزهق بأرواح المسلمين الأبرياء وتؤدي إلى الانشقاقات الداخلية العصبية ، كفتنة خلق القرآن التي عصفت بالمسلمين زمن العباسيين وعذب بسببها إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل الشيباني رحمه الله ودخل الرعب في صدور المسلمين من بطش ولاة الأمور ومع ذلك لم يسمح الإمام احمد رحمه الله الناس بالخروج على الولاة أو التظاهر ضدهم أو التجمع عليهم ، لأنها محرمة من صنيعة الكفار والتشبه بهم كما أنها تخالف الكتاب والسنة وتعتبر خروجاً وانشقاقاً لعصا الطاعة وللأسف فإن بعض المسلمين ولا سيما العلماء منهم يعرفون الكثير من أمور الدنيا ولهم باع طولى في معرفة الشرع والدين إلا أنهم لا يقومون بواجبهم الشرعي وهو النصح والإرشاد لعدم المشاركة في تجمع الخروج والتكفير لعدم وجود المسوغ لذلك من جانب وعدم استيفاء وسائل التغيير بالنصح والإرشاد من جانب آخر ، إضافة إلى احترام الرأي الآخرِ، لأن المسألة اجتهادية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء . وهذا شأن الفتن كما قال تعالى : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً . (الأنفال:25)ووجّهَ رسالة إلى المطالبين دائما بالخروج إلى الإرادة قائلاً لهم : إن ما تكرهون مع الجماعة خير مما تحبون مع الفرقة ، وأعقل الناس من لم يرتکب سبباً حتي يعلم ما تجني عواقبه !!!
لا شك أن ما وقع بين المسلمين حديثاً من تكفير بعضهم بعضاً قد انتهى إلى حد الاستهتار بدمائهم وأسهم في إذكاء نار العداوة والبغضاء بينهم ، وساعد في نفرة المسلمين بين أنفسهم وهذا ما تولاه قوم يعجبون بآرائهم ، جهال بمعرفة النصوص وما تهدف إليه تعصبوا لمشايخهم وافكارهم ثم انطووا على ذلك .
وكان الصحابة يرجعون عن آرائهم الاجتهادية خوفاً من تفرق كلمة المسلمين ، كما جاء في صحيح البخاري عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : اقْضُوا كَمَا كُنْتُمْ تَقْضُونَ فَإِنِّي أَكْرَهُ الِاخْتِلَافَ حَتَّى يَكُونَ النَّاسِ جَمَاعَةً أَوْ أَمُوتَ كَمَا مَاتَ أَصْحَابِي . (بخاري:3431)
قال عبيدة الراوي عن علي رضي الله عنه : فقلت له رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة ، وذلك بسبب قول على في بيع أم الولد ، وأنه كان يرى هو وعمرأَنَّھُنَّ لا يبعن وأنه رجع عن ذلك فرأى بيعهن .
أيها الإخوة ! فإننا اليوم نشاهد بأم أعيننا ما وقع بين المسلمين وما يجرى بين ظهرانيهم في البلاد الإسلامية وغيرها من التكفير والتفجير ، فقد ترك آثاراً سيئة ونتيجة خطيرة تزعزعت منها القلوب وتهدّمت بها الديار ، نشأ عنها سفك الدماء وتخريب المنشآت .
ما حكم التكفير والتسرع فيه :
التكفير حكم شرعي وأصل أصيل إلا أن مصيره ومرده إلى الله ورسوله، فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب منو ط إلى الله ورسوله ، كما قال صلى الله عليه وسلم : فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ، أَلاَ وَإِنَّ مَا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله . ( رواه أبو داؤد : 4604)
فكذلك التكفير ، لأن كل ما يوصف بالكفر من قول أو فعل فلا يكون كفراً أكبر خارجاً عن الملة، وبما أشرت إليه من حكم التكفير فإن مرده إلى الله ورسوله ، إذاً لا يجوز أن نكفر إلا من دلّ الكتاب والسنة وإجماع الأمة على كفره دلالة واضحة غير محتمل غيره ، فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن أو التخييل والتصور ، لما يترتب علي ذلك من الأحكام الخطيرة التي لا يمكن لأحد تناولها أو تحريك شفتيه إلا بأدلة قاطعة في ثبوتها وصريحة في دلالتها .
علماً أن الحدود تدرأ بالشبهات ، مع أن ما يترتب عليها أقل مما يترتب على التكفير ، فالتكفير أولى أن يُدرأ بالشبهات ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر ، فقال : أيما امرئ قال لأخيه ، يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه .
والتسرع في التكفير يترتب عليه أمور خطيرة من استحلال الدم والمال ، ومنع التوارث ، وفسخ النكاح ، والمقاطعة بترك السلام والكلام وغيرها مما يترتب على الردة ، فكيف يسوغ للمؤمن أن يقدم عليه لأدنى شبهة .
هذا ما يتعلق بعامة الناس ، أما إذا كان في ولاة الأمور أو أصحاب السلطان كان أشد فأشد ، لما يترتب عليه من التمرد عليهم وحمل السلاح عليهم ، وإشاعة الفوضي ، وسفك الدماء ، وفساد العباد والبلاد ومصادرة الأموال وسلبها دون مبرر شرعي عليه من الله برهان ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم من منابذتهم ، فقال : ” إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان ” فهذا يدل على أنه لابد من دليل صريح، بحيث يكون صحيح الثبوت ، صريح الدلالة ، فلا يكفي الدليل ضعيف السند ، ولا غامض الدلالة ، إضافة إلى أنه لا عبرة بقول أحد من العلماء مهما بلغت منزلته في العلم والأمانة إذا لم يكن لقوله دليل صريح صحيح من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا يدل على خطورة الأمر جداً .
أيها الإخوة ! إن التسرع في التكفير له خطره العظيم ، لقول الله عزوجل : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } ( الأعراف : 33)
شروط التكفير وموانعه :
قد يفهم من النصوص الواردة في الكتاب والسنة على أن هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كفر ، ولا يكفر من اتصف به أو باشره ، لوجود مانع يمنع من كفره ، لأن هذا الحكم كغيره من الأحكام التي لا تتم إلا بوجود أسباب وشروطها ، وانتفاء موانعها كما في الإرث سببه القرابة ، إلا أنه قد لا يرث بها لوجود مانع كاختلاف الدين ، وقتل الوارث مورثه ، هكذا الكفر يكره عليه المؤمن فلا يكفر به ، وقد ينطق المسلم بكلمة بالكفر لغلبة فرح أو غضب أو نحوهما فلا يكفر بها لعدم القصد ، كما في قصة الذي قال ” اللهم أنت عبدي ، وأنا ربك ” أخطأ من شدة الفرح ، أو الخطأ في التأويل كوضع الدليل الشرعي في غير موضعه باجتهاد أو شبهة تنشأ عن عدم فهم دلالة النص فیقدم المكلف على فعل الكفر وهو لا يراه كفراً ، لأنه احتج بدليل أخطأ في فهم معناه فيكون مانعاً من تكفيره ، فكذلك الكفر علي سبيل الحكاية عن الغير كمن يقرأ كلام الكفار الذي قص الله علينا في القرآن وقد أمرنا بتلاوته ، وكنقل الشاهد ما سمعه من الكفر إلى القاضي ونحو ذلك من الشروط والموانع التي تمنع عن التكفير أو التسرع فيه .
الآثار السيئة التي تترتب على ظاهرة التكفير :
هذا الاعتقاد الخاطئ الذي نجم عنه وترتب عليه استباحة الدماء وانتهاك الأعراض وسلب الأموال الخاصة والعامة وتفجير المساكن والمركبات وتخريب المنشأت وإحداث الأوضاع الفوضوية وغيرها مما يتزعزع به البلاد والعباد ، فهذه الأعمال وأمثالها محرمة شرعاً باجماع المسلمين ، لما في ذلك من هتك لحرمة الأنفس المعصومة ، وهتك لحرمة الأموال وهتك لحرمات الأمن والاستقراء وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم وغدوهم ورواحمم ، وهتك للمصالح العامة التي لاغنى للناس في حياتهم عنها .
أيها الإخوة! هل نحن كاليهود الذين يخربون بيوتهم بأيديهم وأيد المؤمنين حتي يتفاقم التصدع والانشقاق الخطير شيئاً فشيئاً في صفوفنا ويتفشى بيننا العداوة والبغضاء إلا من رحم الله ، مصدقًا لقول عثمان رضي الله عنه: فو الله لئن قتلتموني لا تحابون بعدي ولا تصلون بعدي جميعًا ولا تقاتلون بعدي جميعًا عدوًا أبدًا.
وإنما الغرض التنبيه على وجود هذا الداء بين صفوف المسلمين بعد أن تراخت قبضتهم على دينهم بفعل تلك العوامل الكثيرة ، لأن الأفكار تتغلغل في النفوس وتنتشر ثم تستحكم في أصحابها حين تجد عقولاً مفلسة وقلوبا غافلة فتتمكن حينئذ – على حد ما قاله أحد الشعراء عن الهوى :
أَتاني هواها قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الهوى
فصادفَ قلباً خالياً فتمكنا
وهذا البعض من المسلمين إنما أوقعه في مثل هذہ المزالق ، بُعدُه عن العلم وأهله ومن هنا نجد أن تلك الأفكار الخاصة إنما تنشأ في المجتمعات الجاهلة لعدم وجود حصانة ضدها لديهم ، ولجهل تلك المجتمعات أيضاً أسباب لا تخفى على طالب العلم . وجملة القول أن نعرض كل ما نسمع ونقرأ ونشاهد على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فما وافقهما فهو الحق ، وما خالفهما عرفنا أنه باطل ، وهذا هو الميزان الذي ينبغي أن نزن به كل قول ومعتقد مهما كان مصدره كما هو حال أهل السنة في عرفهم للأقوال والمعتقدات على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو توفيق من الله لهم وهم أهل الحق إلى أن تقوم القيامة .
فنحن نخبر للعالم أن الإسلام برئ من هذا المتعقد الخاطئ وهو : الكتفير بغير برهان من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وخطورة إطلاق ذلك ، لما يترتب عليه من شرور وآثام ، وأن ما يجرى في بعض البلدان من سفك الدماء البريئة وتفجير للمساكن هو عمل لم يأذن به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والإسلام برئ منه ، وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر برئ منه ، فلا يحتسب عمله على الإسلام ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام ، المتمسكين بالكتاب والسنة و المعتصمين بحبل الله المتين ، فالشريعة الإسلامية والفطرة السليمة تأباه .
فالواجب على جميع المسلمين في كل مكان التواصي بالحق ، والتناصح على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن كما قال تعالى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة:2)
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يكف البأس عن جميع المسلمين وأن يصلح أحوالهم جميعاً في كل مكان ، وأن ينصربهم الحق إنه ولى ذلك والقادر عليه وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

جواب دیں

آپ کا ای میل ایڈریس شائع نہیں کیا جائے گا۔ ضروری خانوں کو * سے نشان زد کیا گیا ہے